Top

Numéro 09 thématique de la revue Didactiques


Littérature et enseignement/apprentissage de la langue : des relations au gré des évolutions historiques et des représentations méthodologiques


جوانب تعليمية في الصوتيات العربية

محمد ولد الدالي
مخبر تعليمية اللغة و النصوص - جامعة المدية

ر.د.م.ك: 0436-2253 | الايداع القانوني: 2012-2460



الملخص | المحتوى | المصادر | المرجع و التحميل


يسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على أهم الجوانب التَّعْلِيمية في الصوتيات عامة، وفي الصوتيات العربية خاصة. ذلك أن النحاة العرب المتقدِّمين- وهم يحدّدون المِعيار اللغوي للغة العربية - لم ينسوا المعيار الصوتي الأدائي، الذي يُحدِّد النُّطق الصحيح لأصوات اللغة العربية، مفردةً ومركبةً، وتابعت فئة علماء القراءات والتجويد هذا العمل، فوصلت إلى جملة من القواعد الأدائية، التي يُمكن أن تُستثمَر اليوم، في بعض جوانب تعليم اللغة العربية واستعمالها من حيث الأداء الصوتي
الكلمات المفتاحية : الصوتيات العربية، علم القراءات القرآنية، علم الأداء (التجويد)، القواعد الأدائية، تعليم اللغة العربية، تعليم النطق.



Cet article vise à mettre en évidence les aspects didactiques les plus importants de la phonétique en général, et de la phonétique arabe en particulier. En déterminant la norme linguistique de la langue arabe, les anciens grammairiens arabes n’ont pas oublié le critère phonétique pragmatique (performatif) qui définit la prononciation correcte des sons de la langue arabe (simples et composés).
Ce travail a été suivi par un groupe de chercheurs spécialisés en «récitations coraniques» (qira:’at) et en «orthoépie» ( Tajuid) qui ont conclu une série de règles régissant la performance linguistique, qui peuvent être exploitées dans l’enseignement de la langue arabe.
Mots clés : Phonétique Arabe ,Récitations Coraniques , l’orthoépie , Règles d’usage, Didactique de la Langue Arabe , l’enseignement de la diction.



This article aims to highlight the most important didactic aspects of phonetics in general and Arabic phonetics in particular. By determining the linguistic norm of Arabic language, the ancient Arabic grammarians have not forgotten the pragmatic (performative) phonetic criterion which determines the correct pronunciation of Arabic sounds (simples and compounds).
This work was followed by a group of researchers specializing in "Quranic recitations" (qira:'at) and "orthoepy" (Tajuid) who concluded a series of rules governing linguistic performance that can be exploited in teaching Of Arabic language.
Keywords: Arabic phonetics, Quranic recitations, orthoepy, Rules of use, Didactics of the Arabic language, teaching of diction.






مقدمــة :


لاشك أن البحث اللساني الحديث قد قطع أشواطا هامة، سواء في فهم الظاهرة اللسانية، والكشف عن أسرارها، وما نتج عن ذلك من رصيد ضخم من النظريات والقوانين اللسانية، أم في استثمار تلك النظريات والقوانين في ميادين تطبيقية مختلفة، ومنها ميدان تعليمية اللغات. وقد عُرف الشق الأول من البحث باللسانيات النظرية، وهي التي تسعى إلى "... صوغ نظرية لبنية اللغة ووظائفها، بغض النظر عن التطبيقات العملية، التي قد يتضمنها البحث في اللغات..." (محمد محمد يونس علي. 2004 :15). كما عُرف الشق الثاني منه باللسانيات التطبيقية، وهي التي:"...تهتم بتطبيق مفاهيم اللسانيات ونتائجها على عدد من المهام العملية ولاسيما تدريس اللغة..." (محمد محمد يونس علي.2004 : 15).


تمثل الأصوات في اللغة الجانب المادي المحسوس، في حين تمثل المعاني جانبها المجرد، ومن هنا كان لهذا الجانب الصوتي فرع خاص من اللسانيات، يهتم بدراسته هو علم الأصوات أو الصوتيات : (La Phonétique)، وهذا الفرع - كما عرَّفه تروبتسكوي - هو العلم الذي يَدْرُس الجانب المادي لأصوات اللغة البشرية، في مقابل الصوتيات الوظيفية (La Phonologie)، التي تدرس الجانب البنوي المجرد في علاقته بالمعنى اللغوي. (Jean Dubois.1994:361)


إذا عدنا إلى تراثنا اللساني العربي في ميدان البحث الصوتي نجد العديد من الجهود التي تستوقفنا، بدءا بجهود النحاة مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175 هـ) وتلميذه سيبويه (ت:180هـ )، الذي تَعرّض في كتابه إلى الكثير من المسائل الصوتية، وخاصة في باب الإدغام، حيث تناول أصوات اللغة العربية بوصف دقيق لمخارجها وصفاتها، ثم ابن جني (ت: 392هـ) في كتابه : سر صناعة الإعراب، بالإضافة إلى جهود علماء القراءات والتجويد مثل مكي بن أبي طالب (ت: 437 هـ) في كتابيه : الرعاية والكشف  وأبي عمرو الداني (ت: 444هـ) في كتابه: الفتح والإمالة، وانتهاء بجهود الفلاسفة، مثل ابن سينا (ت:370هـ) في كتابه: أسباب حدوث الحروف، وأبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) في كتابه: الحروف.


لاشك أن الربط بين البحث الصوتي من جهة، وبين تعليمية اللغة العربية من جهة أخرى، يفضي إلى طرح الإشكالية الآتية :


ــ ما أهمية البحث الصوتي التطبيقي بالنسبة إلى ميدان تعليمية اللغة ؟هل التفت البحث الصوتي في تراثنا إلى جانب تعليم اللغة ؟


ــ ما هي أهم الجوانب التطبيقية التي ركز عليها العلماء العرب القدامى؟ وما أهميتها في تعليم اللغة العربية اليوم ؟


هذا ما نحاول أن نبحث فيه، من خلال تناول أهمية الصوتيات في تعليمية اللغة بصورة عامة، ثم علاقة الصوتيات بتعليمية اللغة العربية عند الصوتيين العرب، ثم أهمية الصوتيات التطبيقية في تعليم اللغة العربية.


أولا - الصوتيات الحديثة وتعليمية اللغة: تُعد الأصوات في أي لغة هي الأساس الذي تُبنى عليه الكلمات والجمل، فاللغة هي سلسلة من الأصوات المتعاقبة تحمل معنى. ومن هذا المنطلق فإن دراسة أي جانب من جوانب اللغة، تتطلب الإلمام بخصائصها الصوتية، ومن هنا كانت الصوتيات هي الفرع اللساني، الذي تحتاج إليه كل الفروع الأخرى، كعلم الصرف، وعلم النحو، وعلم المعنى. فاللساني لا يمكنه أن يتجاهل الصوتيات، وهو يَدْرُس اللغة في كل المناهج التي قد يعتمدها. قال أحمد مختار عمر: "... ولا يستغني اللغوي مهما كان منهجه في دراسة اللغة، وصفيا أو تاريخيا أو معياريا أو مقارنا، لا يستغني عن علم الأصوات. ويصدق هذا حتى على علم اللغة التقليدي في القرن الماضي، حين ركز على التطور اللغوي، فقد أعطى اهتماما خاصا بالتطور الصوتي، وبالقوانين الصوتية، وهي دراسة يمكن أن تُسمَّى بعلم الأصوات التطوري..." (أحمد مختار عمر. 2004: 402).


وتتناول الصوتيات الحديثة الأصوات اللغوية من زوايا مختلفة: عامة، وصفية، تطورية،...إلخ، وهي تبعا لذلك فروع مختلفة منها:


أ - الصوتيات العامة: وتبحث في الإمكانات الصوتية البشرية، وعمل الجهاز الصوتي عند الإنسان.


ب - الصوتيات الوصفية : وتبحث في الخصوصيات الصوتية للغة من اللغات، أو للهجة من اللهجات.


ج - الصوتيات التطورية : وتبحث في التغيرات الصوتية، التي تصيب اللغة عبر الزمن، والعوامل التي تؤدي إليها. (D.Coste.1976 :416 - 417  / R.Galisson ).


غير أن " منهجية تعليم اللغات أدت إلى ميلاد أو إعادة بعث قوي لمجموعة من التخصصات الصوتية، التي تستجيب لبعض الانشغالات الأكثر تعليمية منها :


أ - الصوتيات التصحيحية: ( Ph. corrective )، "... وهي التي تُغطي مجموع الطرائق والفنيات التطبيقية، سواء في القسم أم في مخبر اللغات، من أجل التصويب، أو اكتساب النطق الصحيح في لغة أجنبية، فتمارين التمييز والتعرُّف على الحروف والكلمات الصوتية، التي تستهدف السمع، وتخص إدراك وإرسال العناصر التقطيعية، وما فوق التقطيعية للغة الأجنبية، وتمارين النطق التي تستهدف إرسال أزواج صغرى من العناصر الصوتية، أو أزواج من الكلمات الحاملة لتلك الأزواج من العناصر الصوتية، كلها تمارين من الصوتيات التصحيحية. " (R.Galisson / D.Coste.1976 :416 - 417).


ب - الصوتيات التركيبية : ( Ph. combinatoire )، " وهي التي تدرس التغيرات التي تُصيب الحروف عند تجاورها في السلسلة الصوتية، أي تأثيرات بعض الحروف في بعضها الآخر حسب السياق. فالصوتيات التركيبية ذات اتصال بعلم الأداء: (l’orthoépie )، وتتصل في أحيان كثيرة بتعليمية اللغات..."(.Coste.1976 :417 R. Galisson/D). وقد عرَّف "جون ديبوا" التغيير الصوتي التركيبي، الذي يحدث في السلسلة الكلامية بأنه:" التغيير الصوتي، الذي يُصيب حرفا مُجاورا لحرف آخر، ويحصل غالبا نتيجة الميل إلى التماثل الصوتي."(Jean Dubois.1994 : 92).


والذي يهمنا في هذا المقام من هذه الفروع هما الفرعان الأخيران لارتباطهما ارتباطا مُباشِرا بحقل تعليمية اللغات، الذي تُسْتَثمر فيه النظريات والأفكار لتحسين النطق عند المتعلمين. ومن أهم مجالات الصوتيات التطبيقية مجال تعليم الأداء، أو تعليم النطق (l’enseignement de la diction)، سواء تعلق الأمر باللغة الأم، أم باللغة الأجنبية، التي نهدف إلى اكتسابها (اللغة الهدف ).


"... ففي العصر الحالي نالت اللغة المنطوقة مكانة مرموقة لم تكن لتتبوأها من قبل، بفضل الأجهزة المُخترَعة مثل : الهاتف والمذياع والحاكي ومكبر الصوت ومسجلات الصوت والفلم الناطق، وبذلك عوضت اللغة المنطوقة شيئا فشيئا اللغة المكتوبة. وأصبح لسان الحال يقول: يجب أن نعرف كيف نتكلم، بل يجب أن نُحسن التكلم للوصول إلى الجماهير، وننال التأثير الذي نصبو إليه، فكيفية النطق لم تعد خاصة بمن يتكلم فحسب، ولكنها شيء يهم كل من يسمع خطابات السياسيين والعلماء والفنانين والممثلين الرسميين للمجتمع ... ففن النطق الجيد احتل مكانة هامة في التعليم الحديث واستحق - بلا شك - اهتماما أكبر. والصوتيات هي الأساس الضروري لكل تعليم من هذا النوع، يجب أن نعرف آلية التنفس وعمل الحنجرة، لنُعلِّم تلاميذنا كيفية التحكم في التصويت، فالتنفس السَّيئ، والصوت الخشن يزعجان السامع ويتعبان المتكلم. يجب أن نعرف كليا العمل العضوي للسان والشفتين والحنك الأعلى...إلخ لكي نستطيع، تصحيح أخطاء النطق المتعددة الأوجه لدى أكبر عدد من الأشخاص من الأطفال والبالغين...". (Malmberg Bertil.1979 :121- 122)


ومن هنا استفادت تعليمية اللغات من علم الأصوات في عملية تصحيح النطق لدى المتعلمين، من خلال الصوتيات التصحيحية التي ذكرناها سابقا، والتي يسميها بعض الباحثين في الوطن العربي: الصوتيات التقويمية.(عبد الفتاح إبراهيم : 13). وقال عنها محمد الصالح بن عمر : "... ولقد نشأ تبعا لذلك فرع جديد في علم الأصوات، يختص بإجراء المقارنات بين اللغات الأصلية للمتعلمين، واللغات المُدرَّسة، لتحديد الصواتم، التي ينبغي تركيز العناية عليها في تعليم اللغات الأجنبية. ثم صياغة تمارين مخصوصة، تمكِّن من تذليل صعوبات النطق التي تعترض المتعلم أثناء دراسته، و هو علم الأصوات التصحيحي..." (محمد الصالح بن عمر. 1998: 17).


ومن هنا يتبين لنا أن ما يستفيده مُعَلِّم اللغة من الصوتيات بفروعها النظرية المختلفة من جهة، والتطبيقية من جهة أخرى شيء عظيم سواء في تدريس اللغة الأم، أم في تدريس اللغة الهدف، فهي تُمَكِّنه من معرفة الخصائص الصوتية للغة المُدرَّسة من الناحية النظرية، كما تُمَكِّنه من إتقان الأداء الصوتي الخاص بتلك اللغة من الناحية العملية، خصوصا إذا علمنا أن معظم المُعَلِّمين في أيامنا هذه يُعَوِّلون في أداء أصوات اللغة العربية على الجانب الخطي المكتوب، أكثر مما يُعَوِّلون على قواعد واضحة للأداء، يتعلمونها ويَتَدَرَّبون عليها، قبل أن يعلموها غيرَهم، ولذا صرنا نسمع بعضهم ينطق الألف والواو في كلمتي :" مائَة وعمْرو"، وهما علامتان خطيتان جيء بهما في الكتابة، للفرق بين هاتين الكلمتين، وبين :" مِنْهُ وعُمَر"، قبل أن يوضع نقط الإعجام، وعلامات الشكل المعروفة في عصرنا الحالي.


لقد استفادت الطرائق السمعية البصرية في تعليم اللغات من هذا الجانب التطبيقي من الصوتيات، لتنمية الإدراك السمعي لدى المتعلمين، وحول هذه الاستفادة قال أستاذنا عبد الرحمان الحاج صالح :"... وبسبب ذلك اهتم هؤلاء العلماء في تدريس اللغة بدور البصر والسمع، ولاسيما هذا الأخير. فلا بد أن تُعطَى الأولوية لتهذيب الإدراك السمعي، بالنسبة للأصوات الخاصة باللغة المراد تعلمها. ومن ثم جاء اهتمامهم بدور الصوتيات التطبيقية، التي ترمي إلى تدريب الأذن وجعلها أكثر حساسية في تشخيص أصوات اللغة من جهة، وجعل المتكلم أكثر إتقانا للنطق بهذه الأصوات من جهة أخرى. ولا يمكن في الواقع أن يحصل ذلك، إلا إذا وقع ارتباط وثيق بين السمع والنطق..."(عبد الرحمان الحاج صالح. 2007:ج:1: 196).


ثانيا - تراث الصوتيات العربية وتعليمية اللغة العربية: لاشك أن المتصفح لكتب التراث الصوتي العربي، يجد أن فئة النحاة المتقدمين تناولت الكثير من المسائل الصوتية، مثل وصف مخارج الحروف، وتحديد صفاتها الذاتية والعارضة بدقة فائقة، ولم تُغفل كيفيات الأداء الصحيح، كما سُمعت من العرب الفصحاء أثناء النطق، كالإدغام، و الإقلاب ، وتخفيف الهمزة، والإخفاء، وإبدال الحروف بعضها من بعض إبدالا جائزا تارة، واضطراريا تارة أخرى، وفسَّرت هذه الظواهر الصوتية الصرفية، تفسيرا صوتيا علمياً. قال سيبويه :"...وإنما وصفت لك حروف المعجم بهذه الصفات، لتعرف ما يحسن فيه الإدغام وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك و لا يجوز فيه، وما تُبدله استثقالا كما تُدغم، وما تُخفيه وهو بزنة المتحرك..." (سيبويه. دت:ج:4: 436).


 فالهمزتان المتجاورتان - على سبيل المثال – في سياق معين تؤدَّيان بكيفيات مختلفة، تناولها سيبويه في كتابه فقال :"...وليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتُحققا، ومن كلام العرب تخفيف الأولى، وتحقيق الثانية، وهو قول أبي عمرو، وذلك قولك :( فقد جا أشراطها) و(يا زكريا إنا نبشِّرك). ومنهم من يحقق الأولى، ويخفف الآخرة، سمعنا ذلك من العرب، وهو قولك :( فقد جاء اشراطها ) و( يا زكرياءُ انَّا )..."(سيبويه. دت:ج:3: 549)، والملاحظ أن النحاة بعد أن يصفوا تلك الوجوه الأدائية غالبا ما يعمدون إلى تفسيرها وتعليلها وفق مبدأ التقريب الصوتي تارة، ووفق مبدأ الخفة تارة أخرى. قال - في أحد وجوه النطق بحرف الصاد وهي الصاد المُشربة بالزاي، كأن نقول في: قصدير قزدير-"... وسمعنا العرب يجعلونها زايا خالصة... وذلك قولهم في التصدير: التزدير، وفي الفصد: الفزد وفي أصدرتُ : أزدرتُ. وإنما دعاهم إلى أن يُقرِّبوها، ويُبدلوها أن يكون عملهم من وجه واحد، وليستعملوا ألسنتهم في ضرب واحد..."(سيبويه. دت:ج:4: 478).


غير أن النحاة قلما يربطون هذه المسائل الأدائية بالجانب التعليمي للغة العربية، لاهتمامهم أكثر بالجانب التنظيري، ماعدا بعض الإشارات القليلة، التي وردت في بعض كتب النحو، أو في كتب الصوتيات، ومن ذلك ما ورد عند ابن جني في كتابه: سر صناعة الإعراب، عندما تحدث عن الكيفية العملية لمعرفة صدى الصوت اللغوي حيث قال :"... وسبيلك إذا أردت اعتبار صدى الحرف أن تأتي به ساكنا لا متحركا، لأن الحركة تُقْلِقُ الحرفَ عن مَوْضِعِهِ ومُسْتَقَرِّه، وتَجْتَذِبُه إلى جهة الحرف الذي هي بعضه، ثم تُدخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به فتقول : اِكْ، اِقْ، اِجْ، وكذلك سائر الحروف، إلا أن بعض الحروف أشد حصرا من بعضها..."( ابن جني. 2007:ج:1: 19- 20).


فهو يريد أن يوضح للمتعلم اختلاف الحروف في الجرس، بحسب اختلاف مخارجها، إذ لكل حرف صداه الخاص به، ثم يُعِّلمه طريقة عملية، يتوصل بها إلى التفريق بين أصداء الحروف، وهي أن يُسكن الحرف، لأن الحرف المتحرك تجذبه حركته إلى جهة الحرف الذي هي بعضٌ منه، سواء أكان ألفا أم واوا أم ياء. ولما كان النطق بالحرف الساكن - ابتداء - أمرا متعذرا على الناطق تعيَّن عليه أن يتوصل إلى ذلك بهمزة وصل مكسورة، ثم ينطق به ليعرف صداه. وهذا الميل إلى التنظير الذي تميز به النحاة نجده أيضا لدى الفلاسفة الذين تناولوا الأصوات اللغوية بالبحث.


أما الفئة التي أولت هذا الجانب عناية فائقة، وأعطته بُعْدا تعليميا واضحا فهي فئة علماء القراءات والتجويد، التي اشتغلت بضبط قواعد تلاوة القرآن الكريم، لأدائه أداء تاما سليما، وسَمَّته: التجويد. قال شهاب الدين القسطلاني (ت: 923هـ) مُعَرِّفا التجويد : "... وإذا تقرر هذا فليُعْلَم أن التجويد هو مصدر : جوَّد تجويداً، إذا أتى بالقراءة مُجوَّدَة الألفاظ، وهو تقويم حروفها، وإعطاؤهاَّ حقها وتوفيتها واجب مُستَحقَّها من غير إفراط ولا تفريط، ولا تكلف ولا تعسُّف ولا تخليط... "( القسطلاني. 1972: 207).


فالتجويد عند هذه الفئة لا يعني تحسين الصوت في قراءة القرآن فحسب، بل يعني تقويم الحروف وإعطاؤها :"حقها" و"مستحقها" ويعني علماء التجويد بحق الحرف خصائصه الصوتية اللازمة (الأصلية) من حيث الصفة والمخرج. أما مستحقه فهو خصائصه العارِضة (الطارئة)، التي يكتسبها بمجاورته حرفا آخر وتأثره به كترقيق حرف (الألف) لمجاورته حرف السين في (سام)، وتفخيمه لمجاورته الصاد في (صام). قال غانم قدوري، وهو يُعَرِّف التجويد:"... هو إعطاء كل حرف حقه، من مخرجه وصفاته اللازمة له، ومستحقه من صفاته العارضة... " (غانم قدوري. 2009: 11).


ومن أجل ضبط قواعد الأداء بدأ علماء التجويد بوصف مخارج الحروف وتحديد صفاتها حرفا حرفا، وتفطنوا إلى تمايز الحروف وتقابلاتها في هذين الجانبين، وهو ما سُمِّي في الصوتيات الحديثة (عند الوظيفيين خاصة) بالوظيفة التمييزية la fonction) distinctive)، والتي لولاها لما أدت اللغة وظيفتها المركزية وهي وظيفة التبليغ. قال مكي بن أبي طالب (ت:437هـ) : "... فالحروف تشترك في بعض الصفات، وتفترق في بعضٍ والمخرج واحد، وتتفق في الصفات والمخرج مختلف، ولا تجد أحرفا اتفقت في الصفات والمخْرجُ واحد، لأن ذلك يوجب اشتراكها في السمع، فتصير بلفظ واحد، فلا يُفهم الخطاب منها... "(مكي بن أبي طالب. 1996: 115). كما بينوا الطريق العملية في تحديد مخرج الحرف، وكيفية التلفظ به ساكنا ومتحركا. قال القسطلاني:"... وتقريب معرفته أنْ يُسكن الحرف، وتُدخل عليه همزة الوصل، لتتوصل إلى النطق به، فيستقر اللسان بذلك في مَوْضِعه، فيتبيَّن مخرجُه، وإذا سئلتَ اللفظ به ، فإن كان ساكنا حَكيْتَه كما تقدَّم، وإن كان متحركا حكيتَه بهاء السَّكْت، كقول الخليل وقد سأل أصحابه : كيف تلفظون بالجيم من:( جعفر) ؟ فقالوا: جيم، فقال: إنما لفظتم بالاسم دون المسمى، لكن قولوا : جِهْ..." (القسطلاني. 1972: 188). وقد سمى غانم قدوري هذا الجانب من دراسة الأصوات عند علماء التجويد "مستوى التحليل".


كما درسوا تركيب الحروف في سياق الكلام، وتأثير القوي منها في الضعيف. قال مكي بن أبي طالب:"... والقوي من الحروف إذا تقدمه الضعيف مُجاورا له، جذبه إلى نفسه إذا كان من مخرجه، ليعمل اللسان عملا واحدا في القوة من جهة واحدة...". (مكي بن أبي طالب. 1996: 180). وهذا ما سماه غانم قدوري "مستوى التركيب".


وقد أجمل أحد علماء التجويد وهو الحسن بن قاسم المُرادي (ت: 749هـ) أُسُسَ هذا العلم فقال :"... إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور: أحدها: معرفة مخارج الحروف. والثاني : معرفة صفاتها. و الثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام. والرابع: رياضة اللسان بذلك، وكثرة التَّكرار..."(غانم قدوري الحمد. 2001: 82).


وقال غانم قدوري معلقا على كلام المُرادي :"... يمثل الأمر الأول والثاني في هذا القول ما سميناه بمستوى التحليل، في دراسة الأصوات اللغوية، ويمثل الأمر الثالث المستوى الثاني في تلك الدراسة، وهو مستوى التركيب، ويتعلق الأمر الرابع بالناحية التعليمية... "(غانم قدوري. 2001: 82).


وتكمن أهمية علم القراءات والتجويد في جوانب عدة نذكر منها ما يلي :


أ - النقل الصحيح : فوجوه القراءات والتجويد، التي نُقِلت إلينا صحيحة، لا يرقى إليها أدنى شك من حيث الرواية، قال أحد الباحثين في هذا الميدان :"... وإذْ قد استرحنا إلى مذاهب القراء فيما نقلوه، وجب علينا أن نتخذ القراءات حجةً ومصدرا، فهي قبل ذلك وبعده سندٌ موثوق بصحته..."(عبد الفتاح إسماعيل شلبي. 1983: 405).


ب - العناية بالجانب الأدائي العملي : إذ وصفوا أداء آيات القرآن الكريم بصورة تطبيقية دقيقة، جمعت بين كيفيات الأداء المختلفة، وبين لغات العرب، وقد جمعوا بذلك بين أمرين : الرواية والدراية كما يقولون، وهذا جانب مهم في تعليم اللغة العربية اليوم قال عنه الأستاذ عبد الرحمان الحاج صالح: "... ومن أعظم ما تركوه لنا هو الوصف المستفيض للأداء القرآني من جهة، وللغات العرب، أي الكيفيات المتنوعة للتأدية الصوتية والصرفية والنحوية لعناصر اللغة، وإن كان هذا الجانب من أوصافهم جدَّ مهم بالنسبة لنا وللأجيال القادمة، فإنه لم يحظ إلى الآن بالعناية الكبيرة من قبل اللغويين المحدثين، اللهم إلا النزر القليل من المحاولات..."(عبد الرحمان الحاج صالح. 2007 :ج:1 : 74). 


والدليل على ذلك هو اعتبارهم الخطأ في نطق الحرف على وجهه الصحيح لحنا، أي خطأ في اللغة وسموه لحنا خفيا، في مقابل اللحن الجلي، وهو الخطأ في الإعراب. فاللحن الجلي عند ابن الجزري هو: "... تغيير بعض الحركات عما ينبغي، نحو أن تضم التاء في قوله تعالى: (أنعمتَ عليهم)... "(ابن الجزري. 1997: 77). وأما اللحن الخفي فهو: "... مثل تكرير الراءات، وتطنين النونات، وتغليظ اللامات، وإسمانها، وإشرابها الغنة، وإظهار المُخفَى، وتشديد المُليَّن، وتليين المُشدَّد... "(ابن الجزري. دت: ج:1: 214 ).


د - التـأكيد على جانبي المشافهة والتدريب: إذ بينوا لمُتعلم القراءة أن الأداء يتطلب مشافهة من يُحسنه، والاستماع إليه، ثم التمرُّن على ذلك - وهو ما اتفقوا على تسميته بالرياضة – عن طريق الممارسة، لكي يتحول هذا الإتقان إلى دُربة، ثم مهارة مكتسبة. قال ابن الجزري :"... أول ما يجب على مُريد إتقان القرآن تصحيحُ إخراج كل حرف من مَخرجه المختص به، تصحيحا يمتاز به عن مُقاربه، وتوفيةُ كل حرف صفتَه المعروفة به توفيةً، تخرجه عن مُجانسه، يُعمل لسانه وفمه بالرياضة في ذلك إعمالا يصير ذلك له طبعا وسليقة..."(ابن الجزري. دت: ج:1 : 214). وهذا الجانب العملي قال عنه غانم قدوري:"... وهذا أمر ينتقل بالدرس الصوتي العربي إلى مستوى التطبيق العملي، الذي لا تزال الدراسات الصوتية العربية الحديثة تفتقر إليه..." (غانم قدوري. 2007: 350).


ج - الاهتمام بالأصوات مُرَكَّبَةً: لم يكتفِ علماء القراءات والتجويد بتوضيح خصائص الحروف مفردةً، بتبيان صفاتها التمييزية، بل تجاوزوا ذلك إلى وصف الحروف حال تركيبها، وتأثير بعضها في البعض الآخر عند النطق بها في السلسلة الكلامية. وهو ما سمي في البحث الصوتي الحديث بالصوتيات التركيبية، كما رأينا سابقاً وهذا ما نجده عند ابن الجزري، الذي قال :"... فإذا أحكم القارئُ النطقَ بكل حرف على حدته موف حقه، فليُعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب، لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، وذلك ظاهر، فكم ممن يُحسن الحروف مفردة، ولا يُحسنها مُركَّبَة بحسب ما يجاورها من مُجانس ومُقارب، وقوي وضعيف، ومُفَخَّم ومُرَقَّق، فيجذب القوي الضعيف، ويغلب المفخَّم المرقَّق، فيصعب على اللسان النطق بذلك على حقه، إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب. فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصل حقيقة التجويد بالإتقان والتدريب... " (ابن الجزري. د ت: ج:1 : 214- 215).


ودراسة علماء القراءات والتجويد للحروف مفردة ومركبة، يدل على أن تناول الأصوات عندهم كان يشمل الجانبين : الجانب الصوتي المحض، الذي يبين أداء الصوت اللغوي بوجه من الوجوه في سياق صوتي معين، دون أن يؤدي ذلك إلى تغير في وظيفة الصوت التمييزية بين معاني الكلم، والجانب الصوتي الوظيفي المرتبط بهذه الوظيفة.


فمن الجانب الصوتي الخالص نذكر- على سبيل المثال لا الحصر- قول مكي بن أبي طالب :"... والراء اتسعت فيه العرب، فأخرجته في اللفظ مرَّة مُرقَّقا... فقالوا: مِرَّة، مِرًى، قِرًى، وأخرجته مرة مُفخَّماً في مثل قولك : ضرب، خرج، رقد... "(مكي بن أبي طالب. 1996: 195- 196)، ففي تحقيق حرف الراء - عنده - وجهان : الوجه الأول وهو الترقيق، والوجه الثاني وهو التفخيم، والانتقال من أحدهما إلى الآخر لا يؤدي إلى تغيير في المعنى.


 أما عن الجانب الوظيفي التقابلي فقد قال عن تقابل السين والصاد :"... فواجب على القارئ المُجوِّد أن يُحافظ على إظهار الفرق بينهما، فيُعطي السين حقها من الصفير فتظهر، ويعطي الصاد حقها من الإطباق فتظهر... " (مكي بن أبي طالب. 1996: 212)، ففضيلة السين هي الصفير، وفضيلة الصاد هي الإطباق، وبهاتين الصفتين يتقابل الحرفان. وهذه النتيجة تخالف ما ذهب إليه سميح أبو مغلي حين قال :"... هذا وتدخل معظم الدراسات الصوتية عند العرب في إطار ما يُعرف في علم اللغة الحديث بالفونولوجيا، وهو علم وظائف الأصوات، فقد جاءت تلك الدراسات مُركِّزة على الوحدات الصوتية من صوامت وحركات، وقليلا ما عرضوا للأحداث الصوتية المادية... " (سميح أبو مغلي. 1986: 33). وما أكثر الشواهد التي تدل دلالة قاطعة على أن الصوتيين العرب - على اختلاف مشاربهم – قد تناولوا الأصوات اللغوية من هاتين الزاويتين، وبالاهتمام ذاته.


ثالثا - أهمية الصوتيات التطبيقية في تعليم اللغة العربية:  من خلال استعراضنا للعلاقة بين الصوتيات، وبين تعليمية اللغة عند الباحثين الغربيين، وعرضنا لاهتمام علماء القراءات والتجويد بجانب الأداء الصوتي في تعليم القراءة القرآنية، يمكننا أن نستخلص أهمية الصوتيات في تعليم اللغة العربية. ومن الجوانب التي تتجلى فيها هذه الأهمية بصورة أكبر نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر ثلاثة جوانب :


1 - جانب أداء الأصوات في سياق الكلام : فكلٌّ من الصوتيات التصحيحية والتركيبية تُحَدِّدُ لنا المعايير الخاصة، التي نضبط من خلالها الأداء السليم لأصوات اللغة العربية، وتجعل المتكلم يتلافى أخطاء النطق المختلفة، خاصة تلك التي لا تتعلق بمرض كلامي، فأداء الأصوات حالما تتركب في السلسلة الكلامية، يخضع لقواعد خاصة تسمى: قواعد الأداء، وسنذكر من هذه القواعد – على سبيل المثال لا الحصر – ما يلي :


أ - قاعدة تغليظ الراء وترقيقها : فحرف الراء في اللغة العربية يتحقق في الكلام بوجوه عديدة، تبعا لاختلاف خصوصيات النطق من متكلم إلى آخر، وهو ما يسميه علماء الأصوات بالبصمة الصوتية، وكذلك لاختلاف الأداء لدى مجموعة من المتكلمين، وهو ما يدخل في لغات العرب (اللهجات) المتباينة من رقعة جغرافية إلى أخرى، وقد تختلف هذه الوجوه باختلاف السياق الصوتي، الذي يَرِدُ فيه الصوت اللغوي، ونعني به ما يكتنفه من أصوات سابقة ولاحقة، مما يجعل طريقة تحقيق الراء تختلف من سياق إلى آخر، وهو ما يهمنا في هذا المقام، فالراء في كلام العرب وعند علماء التجويد مغلظة ( مفخمة ) في الأصل مثل : رَأَى، راسَلَ، ولكنها قد تُرقَّقُ مثل: البَشَرِيَّة. قال مكي بن أبي طالب (ت: 437هـ) :"... اعلم أن الراءات أصلها التغليظ والتفخيم ما لم تنكسر الراء، فإن انكسرت غلبت الكسرة عليها، فخرجت عن التفخيم إلى الترقيق، وذلك نحو مررت بساتر، وغافر..." (مكي بن أبي طالب. 1997:ج:1: 209 ). 


وكذلك إنْ وليتها ياء رُقِّقت أيضا، لأن الياء تجذبها نحو الترقيق. أما إن وليها حرف من أحرف الاستعلاء، كانت الراء مفخمة، قال مكي بن أبي طالب : "... وإذا كان بعدها ياء رُقِّقَتْ لقربها من الياء التي بعدها، وذلك في الكسر نحو : مِنْ فِرْعون، وأنذِرْهم، وفي الياء نحو : مريَم وقرية، فإن انكسر ما قبلها، وأتت الياء بعدها، فذلك أقوى في ترقيقها نحو : مِرْية، فهذا حكمها ما لم يأت بعدها حرف من حروف الاستعلاء، فإن أتى بعدها حرف من ذلك، غلب على الراء التغليظ للحرف المستعلي، الذي بعدها نحو : فِرْقَة وإرْصاداً..." (مكي بن أبي طالب. 1997:ج:1: 209- 210).


ب - قاعدة ترقيق اللام وتغليظها: يرى علماء القراءات والتجويد أن الأصل في اللام هو الترقيق، ولكنها اكتسبت التفخيم لمجاورتها الراء في المخرج، قال مكي بن أبي طالب: "...اعلم أن اللام حرف يلزمه تفخيم وتغليظ، لمشاركته الراء في المخرج، والراء حرف تفخيم..." (مكي بن أبي طالب. 1997:ج:1: 218). وتبعا لعوامل السياق فهو يُؤَدَّى بكيفيتين هما: التفخيم لعامل معنوي في لفظ الجلالة : الله، تعظيما له، أو لعامل لفظي هو أن يسبقه أحد أحرف الإطباق، والترقيق إذا سُبِق بكسرة. قال مكي بن أبي طالب :"...فاللام تُفخم للتعظيم، وتُفخم لأحرف الإطباق...فأما تفخيمها للتعظيم فنحو اللام من اسم الله جل ذكره، هي مفخّمة أبدا للتعظيم : تقول: الله ربي، وقال الله، و لا إله إلا الله، لا تزال اللام مفخمة إلا أن يأتي قبلها كسرة، فتُرقق للكسرة، فإن زالت الكسرة رجعت اللام إلى أصلها، تقول : باللهِ أَثِقُ، وفي الله عِوضٌ، ولاسمِ اللهِ حلاوةٌ، فترقق اللام للكسرة التي قبلها، فإن زالت الكسرة رجعت اللام إلى أصلها فَفُخِّمت، تقول : اسم الله عظيم، الله ثقتي، الله يعوض خيرا... وأما تفخيمها لحرف الإطباق قبلها فتفرَّد به ورش عن نافع في بعض المواضع، وذلك إذا كان قبل اللام طاء أو صاد أو ظاء، ما لم تنكسر اللام أو تنضم الظاء، فالذي يُفخَّم نحو: ظلموا، ومن أظلمُ، والصلاة، ومُصلَّى، والطلاق، وطلقتم..." (مكي بن أبي طالب. 1997:ج:1: 218- 219).


ج - قاعدة قلب النون الساكنة والتنوين ميما، إذا وليتهما باء : من أحكام النون الساكنة والتنوين أنما ينقلبان ميما إذا جاورا حرف الباء في الأداء الصحيح مثل : سُنْبُلة (سُمْبلة) وعَنْبَر(عَمْبَر)، أنْ بقي لك (أمْبقي لك )، متأثرٌ به (متأثرمْبه)، قال مكي بن أبي طالب:"...الخامس أن النون الساكنة والتنوين ينقلبان ميما، إذا لقيتهما باء نحو قوله : (أنْ بُورٍك) [النمل: 8]، و(هنيئاً بما كُنتم ) [الطور:19]، وكذلك النون تأتي بعدها الباء في كلمة نحو: (أنْبِئْهم)[البقرة:33].." (مكي بن أبي طالب. 1997:ج:1: 165 ). والإقلاب في مثل هذه الحالات هو المنزلة الوسطى بين نقيضين هما: الإدغام والإظهار، فالنون لم تُدغم في الباء لبعد مخرجيهما، ولم تظهر عندها، لتشابههما في خاصية الغنة، فكان الإقلاب. قال مكي بن أبي طالب: "...والعلة في إبدال النون الساكنة والتنوين ميماً عند الباء أن الميم مؤاخية للباء، لأنها من مخرجها، ومشاركة لها في الجهر والشدة. وهي أيضا مؤاخية للنون في الغنة والجهر، فلما وقعت النون قبل الباء، ولم يمكن إدغامها فيها لبعد المخرجين، ولا أن تكون ظاهرة لشبهها بأخت الباء وهي الميم، أُبدلت منها ميما لمؤاخاتها النون والباء..."(مكي بن أبي طالب. 1996: 266). ومبدأ التفسير في كل ذلك هو المشاكلة الصوتية، التي يبتغي المتكلم من ورائها تحقيق الغرض التبليغي مع التقليل من المجهود العضلي. وهو ما سُمِّي عند المحدثين بالاقتصاد اللغوي.


2 - جانب تفسير الظواهر الصوتية الصرفية للمتعلمين: كثيرة هي الظواهر الصرفية التي تحدث على مستوى الكلمة، ولا يجد المتعلم تفسيرا لها إلا في الصوتيات، ومن ذلك ظاهرة إبدال حرف من حرف آخر، وهذا ما نجده عند سيبويه، فهو كثيرا ما يلجأ في تفسير بعض الظواهر الصرفية، التي تحدث في الأبنية إلى الصوتيات. و من ذلك ظاهرة المشاكلة، التي يسميها التقريب، كتقريب الصاد من الدال بإبدالها زايا في كلمة قصدير، والتصدير، حيث يميل المتكلم إلى تقريبها من الزاي، قال :"... وسمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زايا خالصة... وذلك قولك في التصدير: التزدير، وفي الفصد الفزد، وفي أصدرت : أزدرت، وإنما دعاهم إلى أن يُقَرِّبُوها ويبدلوها أن يكون عملهم من وجه واحد، وليستعملوا ألسنتهم في ضرب واحد..." (سيبويه. دت. ج:4: 478). فسيبويه يفسر هذه الظاهرة تفسيرا صوتيا، وفق مبدأ التقريب الصوتي، الذي يؤدي إلى تقارب الصوتين، ومن ثم انسجام اللفظ. فيكون العمل الفيزيولوجي خفيفا على أعضاء النطق. وهذا ما يسمى عند الصوتيين المحدثين بالمشاكلة الصوتية أو التماثل الصوتي ( l’assimilation ). وهو ما نجده كذلك عند علماء القراءات والتجويد قال مكي: "...الصاد التي يخالط لفظها لفظ الزاي نحو: الزراط و قزد السبيل وشبهه، فعلوا ذلك بها لقرب الزاي من الصاد، إذ هما من مخرج واحد، ومن حروف الصفير، والأصل في السراط السين، والسين حرف مهموس منفتح فيه صفير، والطاء حرف مُطبق مجهور لا صفير فيه...فلما اجتمعت الأضداد في النطق أبدلوا من السين حرفا يؤاخيها في الصفير وفي مخرجها، ويؤاخي الطاء في الجهر وهو الزاي، وخلطوا بلفظ الزاي الصاد لمؤاخاتها لها في المخرج والصفير، ولمؤاخاتها للطاء في الإطباق لئلا يخل بزوال السين وصفيرها، فَقُرِّب لفظها من لفظ الطاء عند ذلك، وصار عمل اللسان من موضع واحد، ولم يُخلوا بالسين التي هي الأصل، إذ عوضوا منها حرفا من مخرجها فيه من الصفير ما فيها..." (مكي بن أبي طالب. 1996: 109- 110). والملاحظ هنا أن كلا من سيبويه وعلماء القراءات يفسّر ظاهرة إبدال صوت من صوت - وهي ظاهرة صوتية صرفية – تفسيرا يعتمد على مبدأ المشاكلة الصوتية، الذي يصحبه مبدأ الخفة في عملية الكلام، خلافا لما نجده عند بعض النحاة العرب من المتأخرين، الذين يميلون في تفسير مثل هذه الظواهر إلى علل صناعية قياسية، أكثر منها صوتية فيزيولوجية.


3 - جانب استعمال اللغة العربية في الحياة اليومية : لم يكتف علماء القراءات والتجويد بوصف كيفية أداء قارئ القرآن الكريم للحروف مُفردةً ومركبةً، واستنباط معايير خاصة لهذا الأداء، بل تجاوزوا ذلك إلى تحديد مراتب التجويد، أو ما يمكن أن نسميه اليوم بمستويات القراءة، التي تختلف من موطن إلى آخر. بحسب الظروف التي يكون عليها القارئ. قال ابن الجزري : "...وأما كيف يُقرأ القرآن، فإن كلام الله يُقرأ : بالتحقيق والحدر، وبالتدوير، الذي هو التوسط بين الحالتين، مُرتَّلا مُجوَّدا بلحون العرب وأصواتها، وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة..."( ابن الجزري. دت:ج:1: 205). ولكل مرتبة من هذه المراتب خصائص تميزها ( محمد ولد دالي. 1998: 50). فمن خصائص مرتبة التحقيق (الترتيل ): التأني في الأداء، باستغراق زمن أطول، وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه، كما أشرنا من قبل، ومن خصائص مرتبة الحدر السرعة في الأداء، فهي تتطلب فترة زمنية أقل مما تتطلبه المرتبة السابقة، وفيها يخفف القارئ ما يجوز تخفيفه من الهمزات والحركات الإعرابية، ويدغم بعض الحروف المتماثلة أو المتجانسة، وأما مرتبة التدوير فهي التوسط بين الأمرين. وقد بين أستاذنا عبد الرحمان الحاج صالح، أن هذه المراتب المختلفة في القراءة القرآنية والتجويد – مادامت صحيحة مسموعة عن العرب الفصحاء - يمكن أن تُستغل في استعمالنا اليومي للغة العربية التي لا تعرف – مع الأسف – إلا مستويين: مستوى الفصحى الراقية، التي تُستعمل في مقام التخاطب الإجلالي الرسمي، ومستوى العامية الدارجة. ويكون هذا الاستغلال بإحياء مستويات أخرى تتوسط المستويين السابقين، وتتنوع بتنوع مقامات التخاطب المختلفة، مثل مقام حديث الأنس في الأسرة، ومقام التمثيل على خشبة المسرح، وغيرها، كما بيَّن أن السبيل الأمثل إلى ذلك هو إدراج قواعد الأداء في مناهج تكوين المعلمين، ليعرفوا أن الأداء أنواع مختلفة، فهناك الأداء الترتيلي، وهناك أيضا الأداء الاسترسالي التخفيفي، قال :"... وينبغي أيضا أن يُعاد النظر في تكوين المعلمين بالاعتماد على هذه الحقيقة : العربية الفصحى التي كان يتخاطب بها العرب في زمان الفصاحة السليقية في بيوتهم وفي مقام أُنسهم، ليست هذه التي يتشدق بها الممثلون في أيامنا هذه، من حيث الخفة والتَّبَذُّل والاسترسال. فيجب أن يُنبه المعلم على أن تخفيف الهمزة مثلا وإخفاء الحركات فصيح أيضا، وقد سُمع في مخاطبات العرب العفوية، وقُرئ به القرآن، وأن هناك نوعا من القراءة القرآنية تُسمى بالحَدْر( في مقابل التّرتيل والتّدْوير)، تتصف بما يتصف به هذا المستوى من التعبير الاقتصادي المستخف. فكل ما جاء في السماع تقريبا عن فصحاء العرب من التأدية الصوتية قد قُرئ به القرآن، وهو الأصل في الاستشهاد اللغوي..."(عبد الرحمان الحاج صالح. 2007:ج:1: 177- 178). فمعلم اللغة، ومستعملها كثيرا ما يتجنب استعمال ظواهر التخفيف وينظر إليها نظرة سلبية، كتخفيف الهمزة في الكلمات التالية : (راس، بير، ذيب...إلخ )، مما يدل على "...إهمالنا لكثير من الظواهر النطقية التخفيفية – لا لشيء - سوى أنها مستعملة في مستوى اللهجات العامية، في حين أن تلك الظواهر فصيحة، تشهد لها القراءات القرآنية، التي صحت روايتها، واستفاض علماء القراءات في دراستها، وتفسير جوانبها المختلفة..."(محمد ولددالي. 1998: 8).


الخاتمة:


 لقد حققت الصوتيات الحديثة نتائج باهرة تم استغلالها في ميادين شتى، منها ميدان تعليمية اللغة، كما ترك لنا قدماء الصوتيين العرب تراثا هاما في مجال الصوتيات العربية، يمكن أن يتلاقح مع الصوتيات الحديثة، من أجل خدمة اللغة العربية، ولا سيما في الجانب التعليمي، وهذا على ثلاثة أصعدة : صعيد تعليم النطق والأداء، الذي قلما نعيره اهتماما عند تعليم اللغة العربية، وصعيد تفسير بعض الظواهر الصرفية والنحوية تفسيرا صوتيا مقبولا يستسيغه المتعلمون، ويكون بديلا لبعض التفسيرات الصناعية النظرية البعيدة عن مدارك المتعلمين أو المنطقية الجافة، التي يجد المتعلمون صعوبة في استيعابها. فضلا عن صعيد استعمال اللغة العربية في الحياة اليومية، الذي هو في أمس الحاجة إلى مستوى عفوي، يميل إلى الخفة، ويوافق مقامات الأنس.





    ابن الجزري: (شمس الدين أبو الخير محمد) (ت:832 هـ) ـ النشر في القراءات العشر. تصحيح محمد علي الضباع، دار الكتاب العربي، بيروت. لبنان. د ت.

    (ـــــــــ) : ـ التمهيد في علم التجويد، تحقيق غانم قدوري، مؤسسة الرسالة بيروت، لبنان، ط : 4، 1997.

    ابن جني: ( أبو الفتح عثمان ) (ت: 392هـ) ـ سر صناعة الإعراب، تقديم : فتحي عبد الرحمان حجازي، تحقيق وتعليق : أحمد فريد أحمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة. د ت.

    مكي بن أبي طالب القيسي (ت:437هـ) – الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، تحقيق: محي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، ط :5، بيروت، لبنان، 1418هـ 1997م.

    (ــــــــــ) - الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، تحقيق أحمد حسن فرحات، دار عمار، الأردن، ط :3، 1417هـ 1996م.

    سيبويه ( أبو بشر عثمان بن قنبر) (ت : 180هـ) ـ الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت. ط: 1، دت.

    القسطلاني (شهاب الدين) (ت: 923هـ) – لطائف الإشارات لفنون القراءات،ج:1، تحقيق وتعليق الشيخ عامر السيد عثمان والدكتور عبد الصبور شاهين، مطابع الأهرام التجارية، دط، القاهرة. 1392هـ، 1972م.

    أحمد مختار عمر- دراسة الصوت اللغوي، عالم الكتب، القاهرة، مصر، 1425هـ، 2004

    محمد ولددالي – المسائل الصوتية عند علماء القراءات : دراسة نقدية لبعض المسائل على ضوء الصوتيات الحديثة، رسالة ماجستير مخطوطة، جامعة الجزائر : 1998 م، بإشراف الدكتور : الزبير سعدي.

    محمد محمد يونس علي ـ مدخل إلى اللسانيات، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، 2004.

     محمد الصالح بن عمرـ كيف نعلم العربية لغة حية ؟، بحث في إشكالية المنهج، سلسلة " لسانيات عربية "، الخدمات العامة للنشر مطبعة الوفاء، ط:1، تونس. 1998م.

    سميح أبو مغلي – جهود علماء العرب في دراسة الأصوات العربية، مجلة الفيصل، المملكة العربية السعودية، العدد: 108، سنة : 1986م.

    عبد الفتاح إبراهيم – مدخل في الصوتيات، دار الجنوب للنشر، تونس، دت.

    عبد الفتاح إسماعيل شلبي – الإمالة في القراءات واللهجات العربية، دار الشروق، المملكة العربية السعودية، د ط، 1983م.

    عبد الرحمان الحاج صالح – بحوث ودراسات في اللسانيات العربية،ج:1، موفم للنشر، دط، الجزائر. 2007 م.

    غانم قدوري الحمد – الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، سلسلة علوم القراءات، رقم:5، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط:2، 1428هـ. 2007م.

    (ــــــــــ) - المُيسر في علم التجويد، مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي، سلسلة المقررات الدراسية، رقم: 4، ط:1، 1430هـ، 2009م.

 Bertil Malmberg – La phonétique (que sais je ?) P u.f. 12eme édition: 1979.

 Dubois J. (et autres) Dictionnaire de Linguistique et des sciences du langage Larousse .1994.  

 R. Galisson /D.Coste – Dictionnaire de didactique des langues, Hachette, France.1976.




لــذكر المرجع

محمد ولد الدالي، « جوانب تعليمية في الصوتيات العربية »، تعليميات العدد رقم 9 جانفي-جوان 2016 ، [ http://www.univ-medea.dz/ldlt/enligne.html ] ، ص: 318-338




للتحمــــيل: